الأحد، 20 أغسطس 2017

كيف جعلني "الهوس بالرياضيات" سئماً تجاه الاقتصاد!

ترجمة/ عمرو خليل السعيد


ترجمة مقال للأستاذ نوح سميث في موقع "بلومبيرغ" بعنوان:
How 'Mathiness' Made Me Jaded About Economics

لقد أثار اقتصادي النمو الشهير "بول رومر" الذي دائماً ما يكون إسمه على لائحة المرشحين لجائزة نوبل في الاقتصاد، ضجة كبيرة بعد ورقة بحثية اقتصادية له بعنوان "الهوس بالرياضيات في نظريات النمو الاقتصادي". حيث أكد رومر خلال تلك الورقة أنه يشعر بإحباط شديد ضد هؤلاء الذين فشلوا في إقامة علاقة وثيقة بين العناصر الرياضية والعالم الحقيقي، وقد أشار "رومر" في ورقته إلى كل من الاقتصاديين الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد الكلي روبرت لوكاس وإدوارد بريسكوت كدليل على هذا الاستخدام السئ للرياضيات في الاقتصاد.
وبالنسبة لي، فإن ما قاله "رومر" يظهر لي أمرين، الأول وهو الأكثر تسلية هو أن هناك عدداً من كبار الاقتصاديين قد انزعجوا من أفكار لوكاس وبريسكوت، أما الأمر الثاني والأهم، هو أن هناك أزمة حقيقية هادئة داخل أروقة نظرية الاقتصاد الكلي.
أما الأمر الأول، فهناك عداء واضح من قبل لوكاس وبريسكوت وفريقهم الكبير المعروف بإسم "فريق المياه العذبة" نظراً لأن أماكن تجمعهم تكون غالباً بعيدة عن الساحل، للنظريات التي تدعو إلى التدخل الحكومي في الاقتصاد، فهذه الهجمات العدوانية – الغير ناجحة في نهاية المطاف- على الاقتصاد الكلي الكينزي الجديد، قد اكسبتهم غضباً متكرراً من قبل بول كروجمان وبراد ديلونغ. لكن على أية حال بقيت الكثير من تلك الانتقادات والهجمات همساً وراء الأبواب المغلقة وداخل الأروقة الأكاديمية.
ولكن ليس "رومر" وحده الذي يهمه طالب الاقتصاد الذي يذاكر الرياضيات كثيراً وكأنه يتنفس النار، فقد شن روجر فارمر من جامعة كاليفورنيا في ديسمبر الماضي هجوماً على هؤلاء الذين يسيئون استخدام الرياضيات في الاقتصاد "فريق المياه العذبة" وعلى النماذج التي أجروها على نظرية دورة الأعمال.
لذا يمكن القول أن أعداء فريق المياه العذبة قد تحدثوا أخيراً، وأتساؤل من سيكون القادم!
إن مصطلح "mathiness" أو الهوس بالرياضيات والذي ابتكره رومر من مصطلح سابق من ابتكار الممثل الكوميدي ستين كولبيرت "truthiness"، يذهب إلى حد أبعد من مجرد توجيه العداء لفريق المياه العذبة، إنه يتعلق بدور الرياضيات في النظرية الاقتصادية.
فلقد أصبحت الرياضيات تستحوذ على جميع فروع علم الاقتصاد، حتى أن المعادلات والبراهين أصبحت تتواجد في فروع علم الاقتصاد بأكثر مما تتواجد في الرياضيات نفسها، وإذا اعتمدت "نظرية الألعاب" على الرياضيات فهذا أمر طبيعي، لكن استخدام الرياضيات في مجالات الاقتصاد الكلي التي تتعامل مباشرة مع ظواهر العالم الحقيقي، بحيث تصبح الرياضيات هي كل ما يصنعه الاقتصاديون، هو أمر غير دقيق.
وينبغي القول أن استخدام الرياضيات في الاقتصاد الكلي ليس كاستخدام الرياضيات في العلوم البحتة. وهذا أمر لا يدركه غير الاقتصاديين، لذلك اعتقد أنه يجب أن أوضح ذلك بشكل أفضل.
ففي الفيزياء على سبيل المثال، من اليسير صياغة معادلة رياضية تستطيع من خلالها أن تتنبأ بدقة بمسار قذيفة مدفع والمسافة التي ستقطعها والمكان الذي ستسقط فيه، ففي العلوم البحتة تكون المعادلات متوافقة مع الواقع تماماً، وهذا هو السبب الذي سمح لنا أن تهبط المركبات الفضائية على سطح القمر، وكذلك هذا السبب هو الذي سمح لناء ببناء جهاز الكمبيوتر، والسيارة ومعظم الأشياء التي نستخدمها.
وكذلك يمكن استخدام الرياضيات في الاقتصاد الجزئي، حيث دراسات سلوك الأفراد التي يمكن التنبؤ بها، مثل توقع أي أنواع المزادات التي يمكن أن تجلب أسعاراً أعلى، أو توقع عدد ركاب قطار ما في يوم محدد. لكن أن يتم استخدام الرياضيات في الاقتصاد الكلي الذي يتعامل مع الاقتصاد الواسع بمجموعة من المعادلات الرياضية التي لا تدعمها الأدلة هو أمر غير دقيق. فعلى سبيل المثال هناك معادلة تسمى معادلة أويلر euler للاستهلاك وهي من صميم نموذج الاقتصاد الكلي الحديث، والتي تحدد العلاقة بين نمو الاستهلاك وأسعار الفائدة. ولكن عندما استخدم الاقتصاديون بيانات حقيقية وجدوا أن تلك البيانات مخالفة تماماً لنتائج المعادلة، ومع ذلك لا زالت المعادلة تستخدم بصورة واسعة في الاقتصاد الكلي.
وإذا نظرنا في أدبيات الاقتصاد الكلي، سوف نرى أن كل ورقة بحثية مشهورة ومحترمة تطبق هذا النوع من المعادلات الرياضية التي لا تتطابق مع الواقع، حيث تتوقع ورقة بحثية مثلاً أن الناس لن يقبلوا على شراء الأصول المالية إلا إذا كانوا قادرين على الحصول على الأجور المناسبة لهم، وتتوقع أخرى أن يدخر الناس مبلغ نقدي معين خلال فترة معينة. ولكن المشكلة أن هذه النتائج لا يوجد ما يدلل عليها من الواقع الملحوظ، كما أنها لا تملك أي دليل يدعمها، ومع ذلك يتم طرحها بصورة مستمرة، ولا يتم الحكم على صحتها سوى عن طريق مقارنتها مع البيانات المجمعة والتي تكون عادة غير دقيقة ولا تعبر عن الواقع الفعلي.
وبالتالي هناك فرق بين استخدام الرياضيات في الهندسة وبين استخدامها في الاقتصاد، ففي الهندسة تكون النماذج الرياضية قادرة على التنبؤ بالواقع الفعلي. لهذا يقول نائب رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس ديفيد أندولفاتو، إن استخدام الرياضيات في الاقتصاد يهدف إلى تنظيم أفكارنا حول العالم، وجعل أفكار الاقتصاديين ملموسة وقادرة على إقناع الآخرين، والتحقق من الاتساق الداخلي للأفكار (على الرغم من أنها أحياناً تكون منافية للعقل)، ولكن ليس للتنبؤ بالأشياء في العالم الحقيقي.
وبالرجوع إلى شكوى رومر، والذي تحدث خلالها عن لوكاس وبريسكوت وآخرين ممن أقاموا علاقات ضعيفة وغير حقيقية بين العناصر الرياضية والعالم الحقيقي. ولكن من وجهة نظري فإن هناك علاقات ضعيفة وغير حقيقية بين العناصر الرياضية والاقتصاد الكلي فقط، حيث يمكن استخدام الرياضيات في فروع علم الاقتصاد الأخرى مثل الاقتصاد الجزئي. وقد قال رومر أنه تخوف وسئم من قول ذلك ولكن ما يفعله لوكاس وبريسكوت جعله يتخوف على مصير الاقتصاد الكلي. إنه يمكن القول أن ما قاله رومر صحيح بالفعل ويعبر عما بداخلي بدقة، حيث السئم من استخدام الرياضيات بهذه الطريقة في الاقتصاد الكلي في النماذج الحالية.
ويمكنني القول أنني عندما نظرت إلى النماذج الاقتصادية الكلية الأقدم والأحدث، وجدتها تتمتع بنفس الأسلوب، حيث الاختلاف في الدرجة وليس في النوع، فالرياضيات أصبحت سائدة في الاقتصاد الكلي، إنه ليس فقط لوكاس وبريسكوت، إنها الثقافة العلمية كلها في الميدان الاقتصادي.
ويقول رومر إنه في الثقافة الجديدة للاقتصاد الكلي، ينبغي أن يكون "العمل التجريبي هو العلم، والنظرية هي الترفيه". إن هذا الحديث قريب من الطريقة العقلانية في التفكير، لاسيما وأن تكنولوجيا المعلومات الآن توفر لنا فيضاً من البيانات الاقتصادية، لهذا نلاحظ أن النسبة المئوية للأوراق البحثية النظرية المنشورة في المجلات العلمية آخذة في الانخفاض المستمر. ربما بدأ الاقتصاديون في رؤية الرياضيات لما هي عليه، والبدء في الاعتماد على الواقع بدلاً من الرياضيات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق